أجبرت جائحة كورونا -التي اجتاحت العالم وما زالت تداعياتها مستمرة حتى الآن- البشر والشركات والمجتمع عموما على التكيف بسرعة مع واقع جديد وغير مؤكد، وهو واقع غيّر من طريقتنا المعتادة في التعامل مع الأشياء، وعزلنا عن الناس والحياة الطبيعة التي اعتدنا عليها.

ومن المثير للاهتمام أن الابتكارات التكنولوجية الحديثة صعدت لتملأ هذا الفراغ، حيث تم إحراز العديد من التطورات التقنية في مجالات الطب (مثل تطوير اللقاح عبر التكنولوجيا باستخدام التوائم الرقمية)، والاتصالات الافتراضية، والتعليم الإلكتروني، و”الذكاء الاصطناعي” (AI)، و”إنترنت الأشياء” (IoT) والتجارة الإلكترونية.

 

ولا تعد أي من هذه التقنيات جديدة تماما، ولكن الوتيرة المتسارعة لتبنيها، خاصة في قطاعي الرعاية الصحية والتعليم -اللذين يكونان عادة بطيئين للغاية في تبني التقنيات الجديدة- لم تكن متوقعة، وما كان يستغرق عادة سنوات طويلة ليتم تبنيه، حدث في غضون بضعة أشهر حيث أصبح الاتصال الرقمي فجأة النقطة المحورية في حياتنا اليومية.

والآن وبعد مرور نحو 20 شهرا على انتشار الوباء، أصبح من الواضح أن العديد من هذه التقنيات ستبقى معنا على الأرجح لعدة سنوات قادمة، وربما للأبد.

مكاتب العمل الرقمية المنزلية

وجد استطلاع أجراه “اتحاد الصناعة البريطاني” (CBI) مؤخرا على الشركات والمؤسسات الصناعية العاملة في المملكة المتحدة أن 75% من هذه الشركات قد اعتمدت على تقنيات وابتكارات تكنولوجية جديدة لتحسن إنتاجيتها منذ بدء الوباء، ومن أهمها العمل عبر الإنترنت من المنزل، وحسب استطلاع آخر أجرته مؤسسة “أولد ميوتشوال” (Old Mutual) في جنوب أفريقيا مؤخرا بين الأشخاص الذين يتقاضون رواتب تزيد على 8 آلاف راند في الشهر (الراند= 0.063 دولار)، لا يزال أكثر من 65% من المشاركين في الاستطلاع يعملون من المنزل على الأقل لبعض الوقت، و25% منهم يعملون من المنزل معظم الوقت.

ومن المثير للاهتمام، أن غالبية الأشخاص الذين يعملون من مكتب منزلي أبلغوا عن سعادتهم بهذه الطريقة الجديدة من العمل، وذلك حسب ما ذكرت منصة “بيزنس تيك” (businesstech) التي نشرت نتائج الاستطلاع.

وأدت الجائحة إلى انهيار كثير من الشركات، كما قادت إلى عمليات تقليص للنفقات في عدد آخر منها، لذلك طور العديد من الأشخاص في مختلف أرجاء العالم طرق دخل متعددة ومتنوعة تعتمد جميعها على العمل من المنزل، لتعويض التقليصات التي حدثت في رواتبهم أو لإيجاد عمل جديد بدلا من الذي فقدوه.

وبالنسبة لأصحاب العمل، فقد حصدوا العديد من المزايا مثل انخفاض إيجار المكاتب والفواتير وتكاليف التأمين والصيانة، فضلا عن زيادة إنتاجية الموظفين.

 

وأعرب 60% من أصحاب الشركات عن سعادتهم بتقليص مساحات مكاتبهم، بينما يعتقد 43% منهم أنه بحلول عام 2030 لن تكون هناك حاجة للمكاتب على الإطلاق، وليس هناك شك في أن مستقبل العمل سيكون عن بعد وأن المكتب المنزلي الرقمي وجد ليبقى.

الرعاية الصحية عن بعد

لطالما كان القطاع الصحي بطيئا في اعتماد التقنيات الجديدة، ومع ذلك، فإن الجائحة غيرت هذا إلى الأبد، حيث أدرك القائمون على هذا القطاع قيمة تقنيات، مثل العلاج عن بعد واستخدام الروبوتات للحد من انتشار الفيروس.

وهناك المئات من الطرق التي تعمل بها التكنولوجيا على تغيير طريقة تقديم الرعاية الصحية وإدارتها، وبالنسبة للمؤسسات فإن التحدي الأكبر هو تحديد الأولويات، وبالنسبة للأفراد، يظل التحدي الأكبر هو الرعاية الصحية الشخصية التي يمكن الوصول إليها والتي تجعلهم يتحكمون في مستقبل وجودهم في هذه الحياة، كما ذكرت مؤخرا منصة “ديجيتال هيلث” (digitalhealth).

وفي الدول والمدن التي تتوفر فيها شبكة “الجيل الخامس” (G5) يتم التواصل بين المرضى والمسعفين والخبراء الطبيين عن بُعد في الوقت الفعلي.

ومكّن هذا التعاون بين الأطباء والمسعفين، باستخدام تقنية الجيل الخامس الفائقة السرعة، العاملين في مجال الرعاية الصحية من تشخيص وعلاج المرضى عن بُعد عندما لا يتمكنون من الوصول إلى المستشفى.

وفي أثناء الوباء، كان الوصول إلى الخدمات الصحية محدودا؛ حتى تتمكن المستشفيات من التركيز على معالجة المصابين بفيروس كورونا، وقد أجبر هذا مقدمي الرعاية الصحية على اعتماد طرق بديلة للاستشارات والخدمات عبر مؤتمرات الفيديو أو الاستشارات الهاتفية عبر الإنترنت أو البريد الإلكتروني أو تطبيقات الهواتف الذكية، ووجدت الأبحاث أن هذه الخدمات الافتراضية كانت ذات قيمة بالغة خاصة لكبار السن.

وأوجدت الجائحة العديد من التغييرات في صناعة الرعاية الصحية في العالم، وهي تغيرات باقية وستغير مستقبل الطب إلى الأبد.

التعليم الإلكتروني

خلال الجائحة أغلقت المدارس والجامعات أبوابها، وتم إرسال ملايين الطلاب في العالم إلى منازلهم. وفجأة اضطر التلاميذ وأولياء الأمور إلى التكيف مع التعلم الرقمي عن بعد باستخدام أدوات مثل مؤتمرات الفيديو، وتطبيقات تعلم اللغة، ومنصات وبرامج التعلم الإلكتروني، والتعليم الافتراضي، وبذلت المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات جهودا كبيرة لضمان حصول الطلاب على الإنترنت والتكنولوجيا اللازمة لتعزيز الإدماج والتعلم الرقمي.

 

كما أجبرت جائحة كوفيد-19 المدارس والجامعات في مختلف أرجاء العالم -التي كانت بطيئة في تبني التكنولوجيا- على التغيير في فترة زمنية قصيرة جدا، ومع الاقتراب من نهاية الجائحة الآن، قرر العديد من الجامعات في العالم اعتماد نهج “التعلم المدمج” (التدريس المباشر وعبر الإنترنت) للمستقبل، وفي الحقيقة فإن طرق التعلم الإلكتروني المختلفة وجدت لتبقى في عالم يتحول للرقمية في كل شيء، وذلك حسب ما ذكرت منصة “موسيلا” (mussila) في تقرير لها حول مستقبل التعليم الرقمي.

المعاملات بدون تلامس

في عالم الأعمال، روجت الجائحة لتقنية “عدم التلامس” (Contactless transactions) للحد من انتشار الفيروس من خلال الاتصال المباشر، ومن أهم التقنيات التي أصبحت شائعة: الدفع بدون لمس، والتسوق السريع (بدون صرافين)، والتسوق الإلكتروني عبر الإنترنت، وتسجيل الوصول البيومتري للسفر والإقامة.

وأبلغت جميع الشركات الكبرى عبر الإنترنت عن زيادة كبيرة في الأعمال في أثناء الوباء، وفي الحقيقة، تطورت هذه الابتكارات الآمنة والمريحة بسبب زيادة قوة معالجة البيانات مع وجود أجهزة استشعار أفضل للصور، وذكاء اصطناعي أكثر ذكاءً، وشبكات اتصال أسرع بكثير، وستزداد بالتأكيد هذه الطرق في التعامل بدون لمس في مختلف المجالات في المستقبل مع التطور المضطرد للتكنولوجيا.

الذكاء الاصطناعي

نحن نعيش حاليا في بداية عصر الذكاء الاصطناعي الذي تسارع بشكل كبير بسبب الوباء، ويزداد عدد الشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتطوير نفسها، وإعادة تحديث نماذج أعمالها من أجل تحقيق النجاح على المدى الطويل.

وخلال الوباء، استبدل العديد من الشركات الأشخاص بالذكاء الاصطناعي للحد من انتشار الفيروس، كما تم استخدام الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في العديد من البلدان، ليس فقط للتنبؤ بانتشار الفيروس، ولكن أيضا لمراقبة موارد الرعاية الصحية والتنبؤ بها وإدارتها. وفي المستقبل، سينتقل الذكاء الاصطناعي من عامل تمكين تكنولوجي إلى محرك تقني، وبالتالي، سيصبح الذكاء الاصطناعي جزءا أساسيا من جميع إستراتيجيات الأعمال لتحقيق قيمة طويلة الأجل.

الابتكارات ستبقى

في أثناء اشتداد وطأة الجائحة، كان من الممكن أن يتوقف العديد من الشركات عن العمل، إضافة إلى تعطل وتوقف عملية التعليم بأكملها، مع نقص قاتل في مجال الرعاية الصحية، وفي الحقيقة كانت ستتعطل الحياة كلها لولا الحلول التكنولوجية المبتكرة والمتطورة، وأصبح من الواضح الآن أن معظم هذه التقنيات المبتكرة ستكون جزءا أساسيا من مستقبلنا.