عندما دخل الفنان الانطباعي الشهير فنسنت فان غوخ في نوبات المرض النفسي الطاحنة، وبات يخرج من المصحات العقلية ليدخلها مرة أخرى، وجد بحكم غريزة البقاء أن هناك شيئا يُسرّي عنه الكثير من أحزانه ويساعده في الإفلات من بين مخالب اضطراب ثنائي القُطب من آنٍ لآخر.. هذا الشيء هو القراءة.

قدم فان غوخ ذاته الكثير من اللوحات ذات المضمون الأدبي، فكانت إمَّا مستوحاه من روايات أعمال أدبية، أو تتضمن عددا من الكتب والروايات، أو تصور أشخاصًا يقرؤون ويكتبون. وقد عرضت موسوعة غوغل للفنون والثقافة عددا من تلك اللوحات وعلى رأسها لوحة “روايات باريسية وكتب صفراء” (Parisian Novels Yellow Books)، المرسومة عام 1887.

 

تميّزت أعمال فان غوخ بألوان مثيرة وأفكار واقعية في مجملها. واستطاع عبر تلك اللوحة التعبير عن ولعه بالأدب الفرنسي وقد وجد في الكتب خير رفيق أثناء فترات إقامته في مقاطعة بروفانس في فرنسا. ويعتقد النُقّاد أن الكتاب المفتوح في المقدمة يدعو المشاهد للحضور والقراءة.

القارئة الحسناء

الانغماس في القراءة والكتابة لم يكن حيلة فان غوخ وحده للهروب من قسوة واقعه، فقد قدم الرسّام الفرنسي جان هونوري فراغونارد (1732-1806)، لوحته الشهيرة “فتاة تقرأ” أو “القارئة الحسناء”، عام 1769. والتي تعتبر أحد أشهر اللوحات التي تناولت القراءة كموضوع.

 

تعتبر لوحة القارئة الحسناء مثالا للمرأة الرزينة التي تعتبر القراءة هواية راقية وفقًا للمتحف القومي الأميركي للفنون (National Gallery of Art, Washington, DC, US). وبالرغم من أن هوية الفتاة المرسومة لم يتم تحديدها، فإنها أصبحت نموذجًا أنثويًّا مثاليًّا، إذ تجمع بين جمال المظهر، الذي أظهره فراغونارد بتسليط الضوء على مُنحنياتها الناعمة وأناقتها الشخصية، وجمال الجوهر المتمثل في القراءة بنهم.

ولأن اللوحة لا تحتوي على أدوات الكتابة أو أقلام وأوراق، فإن القراءة تبدو موجهة بدافع الشغف، لا لدراسة أكاديمية. ويؤيد تلك الفرضية حجم الكتاب الصغير الدال على رواج الروايات التي انتشرت أواخر القرن الـ18، أي أن القراءة كانت ملاذها هي الأخرى.

الببليوثيرابيا أو التداوي بالقراءة

تناول العديد من الرسّامين القراءة كعلاج ليس اكتشافًا حديثًا، فقد أشار المصريون القدماء والإغريق للقراءة كوسيلة علاجية، حيث كانت المكتبة الطبية للطبيب اليوناني القديم جالينوس مفتوحة لأي شخص يريد القراءة، كما كان القرآن الكريم يوصف كعلاج لبعض المرضى في مستشفى المنصور بالقاهرة.

وفي بدايات القرن الـ19 كان الطبيب النفسي الأميركي بنجامين رش ينصح مرضاه باستخدام مكتبة المستشفى للتعجيل بالشفاء، كذلك اعتبرت المكتبات وسيلة لا غنى عنها من أجل نفوس أقل اضطرابًا في كافة المصحات العقلية في أوروبا منذ مطلع القرن الـ20.

المرض النفسي كوصمة عار

كان الناس ينظرون للمرض العقلي نظرة عار حتى عقود متأخرة من القرن الـ20، وقد لاحق الوصم الكثير من الرسامين والأدباء وحتى الفنانين الذين لجؤوا للمصحات النفسية. كانت الاضطرابات النفسية ذاتها موضوعا شائكا وشديد الحساسية وتتجنب الكثير من الأسر نقاشه ناهيك عن الاعتراف به.

الأمر سيان سواء كان المريض من عوام الناس أو مشاهير الفن والإبداع، فقد ركن الكثير من المبدعين للقراءة كوسيلة للغياب عن عالمهم المُحطم والولوج لعالم آخر قد يكون أقل وطأة أو ألمًا. ومن ضمن هؤلاء الأديب الأميركي الشهير إرنست همينغوي والمُلقب بـ”البابا” (1899-1961).

الحروب العالمية والعلاج بالمعرفة

شأن همينغوي في الأدب شأن فان غوخ وفراغونارد في الرسم، فقد عانى المبدع الشهير من إرث عائلي ثقيل من الاضطرابات النفسية والعقلية التي أودت بحياته في نهاية الأمر. ومع ذلك، وجد همينغوي الكثير من العزاء في القراءة التي كانت بالنسبة له “مساحة آمنة” وسط معاناته من الاكتئاب السريري الحاد.

صك مصطلح العلاج بالقراءة (Bibliotherapy)، الكاتب الأميركي صموئيل ماكورد كروذرز (Samuel McChord Crothers) عام 1916. وتم تطبيق أنظمة قراءة وكتابة معينة على الناجين من الحربين العالميتين الأولى والثانية بعد ارتفاع عدد حالات الانتحار إثر إصابة السواد الأعظم منهم باضطراب ما بعد الصدمة.

كان همينغوي واحدًا من أولئك الجنود الذين شاركوا في المعارك الحربية حامية الوطيس، وكان دخوله عالم الأدب عبر العمل كصحفي وكاتب مقالات يقتضي كثرة الاطلاع بطبيعة الحال. وقد اعتبرت مكتبة المستشفى الذي نُقل إليه بعد إصابته في الحرب جزءا من الدواء الذي ساعده في التعافي.