مؤخرا، أضيفت أكثر من 20 كلمة كورية لقاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية، من بينها كلمة Hallyu “هاليو” التي تعني حرفياً “الموجة الكورية”، ما يلقي الضوء على المد الثقافي الكوري الذي يشهد صعودا متواصلا في مختلف أنحاء العالم.

فكيف ومتى بدأت هذه الموجة الكورية؟ كيف استفادت منها كوريا الجنوبية داخلياً، وهل نجحت في إكسابها قوة ناعمة على الساحة الدولية؟

في البداية، علي أن أعترف بأنني حتى وقت قريب نسبياً، لم أكن أعرف الكثير عن الثقافة الكورية، بما في ذلك الموسيقى الشعبية أو الدراما الكورية – أو ما يعرف ب “كي-بوب” و “كي-دراما”. ككثيرين غيري، ربما ارتبط اسم كوريا الجنوبية بإنتاج السيارات والهواتف المحمولة، والأزمات السياسة التي تشتعل بين الحين والآخر مع الجارة الشمالية.

لكن في الأعوام الأخيرة، يبدو أن الموجة الثقافية الكورية لم تعد تقتصر على منطقة جنوب شرق آسيا، بل تخطتها وتدفقت باتجاه باقي أنحاء العالم، وجعلت من فريق “بي تي إس”( BTS) واحداً من الفرق الغنائية الأكثر شعبية في العالم، ومن المسلسل الدرامي “لعبة الحبار” (Squid Game) المسلسل الأكثر مشاهدة على خدمة نتفليكس التي تبث الأفلام والمسلسلات عبر الاشتراك.

وربما بنفس الطريقة التي استعارت بها كوريا الجنوبية من الولايات المتحدة أو اليابان لتعزيز قدراتها التصنيعية، عكف مخرجو البلاد ومنتجوها على دراسة هوليوود وغيرها من مراكز صناعة السينما على مدى أعوام، واستعانوا بأساليبها، مع إضافة الكثير من اللمسات الكورية. ومع زيادة شعبية مواقع مثل يوتيوب، وبعد أن ساعدت خدمات بث الأفلام والمسلسلات مثل نيتفليكس، في تحطيم الحواجز الجغرافية، تحولت البلاد من مستهلك للثقافة إلى مصدر كبير لها.

مصطلح “الهايلو”، أو “الموجة الكورية” استخدم للمرة الأول من قبل صحفيين صينيين في أواخر التسعينيات للإشارة إلى التصاعد السريع في شعبية الثقافة الكورية الجنوبية في البلدان الآسيوية كاليابان والصين. تزامن ذلك مع النجاح الكبير الذي حققته مسلسلات درامية كورية جنوبية في تلك البلدان.

ومنذ منتصف العقد الأول من الألفية الثانية إلى نهايته، كان انتشار الموجة الكورية يتزعمه بالأساس فرق غنائية نسائية ورجالية، كفريق Big Bang (بيغ بانغ)، و Girls’ Generation (غيرلز جينيرايشن) و Kara (كارا). خلال تلك الفترة، تمكنت الموجة الكورية من توسيع قاعدة معجبيها عالميا، لتشمل أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، ولا سيما بين فئة المراهقين.

ومنذ عام 2010، شرعت الموجة الكورية في توسيع قاعدتها لتشمل، إلى جانب الموسيقى والدراما، التقاليد والأطعمة والأدب واللغة، وقد ساعدها في ذلك منصات مثل يوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي.

في عام 2012، احتفظت أغنية “غانغام ستايل” للمغني الكوري الجنوبي “ساي” بالمركز الثاني على قائمة Billboard Hot 100 الأمريكية للأغاني الأكثر مبيعا وتحميلا لسبعة أسابيع على التوالي، وأصبح فيديو الأغنية أول فيديو على موقع يوتيوب يحصل على مليار مشاهدة، ممهدا بذلك الطريق لانتشار الهوس بأغاني الكي-بوب في مختلف أنحاء العالم.

وقد أعطت الرغبة في تعلم كلمات أغاني “الكي-بوب” دفعة قوية إلى شعبية اللغة الكورية في بلدان كالولايات المتحدة وكندا وتايلاند وماليزيا.

وأظهر تقرير لرابطة اللغات الحديثة في الولايات المتحدة زيادة عدد دارسي اللغة الكورية في الجامعات الأمريكية بنسبة 14 في المئة بين عامي 2013-2016، في وقت شهد انخفاضا في الإقبال على تعلم اللغات بشكل عام.

في عام 2020، بدأ فريق “بي.تي.إس” فصلاً جديداً في تاريخ موسيقى الكي-بوب عندما احتلت أغنيته “داينامايت” قائمة Billboard Hot 100 لأسبوعين متتاليين في أغسطس/ آب. وسبق ذلك إعلان منظمة “آي.إف.بي.آي” التي تمثل صناعة الموسيقى العالمية في مارس/آذار من نفس العام عن أن الفريق هو الأول عالمياً من حيث مبيعات الأغاني. كانت هذه هي المرة الأولى التي يفوز بها بهذا اللقب فريق غير غربي، وفريق معظم أغانيه بلغة غير اللغة الإنجليزية.

في العام نفسه، رشح فيلم “باراسايت” (طفيلي) لستة جوائز أوسكار، وفاز بأربع منها، بما في ذلك أفضل فيلم (أول فيلم غير ناطق بالإنجليزية يفوز بهذه الجائزة) وأفضل مخرج، ما اعتبر فرصة لتعريف العالم بالسينما الكورية الجنوبية. الفيلم يلقي الضوء على الفجوة العميقة بين الأغنياء والفقراء، ولفت فوزه بتلك الجوائز أنظار الجماهير في مختلف أنحاء العالم.

قوة ناعمة

الانتشار الكبير للموجة الثقافية لم يأت من قبيل الصدفة، بل لطالما عكفت كوريا الجنوبية على استخدام تلك الموجة كمصدر للقوة الناعمة – وهو مصطلح ابتكره في أواخر الثمانينيات جوزيف ناي عالم السياسة الأمريكي والمسؤول السابق في إدارة الرئيس كلينتون، ويعني قدرة بلد ما على إقناع الآخرين بفعل ما تريد بدون استخدام القوة أو الترهيب.

يقول الكاتب وخبير استراتيجيات التسويق والعلامات التجارية الدنماركي مارتن رول في مقال على موقعه على الإنترنت، إن كوريا الجنوبية “واحدة من عدد قليل من الدول، وإن لم تكن الدولة الوحيدة في العالم، التي من ضمن أهدافها المعلنة التي تعكف على تحقيقها هي أن تصبح المصّدر الرئيسي للثقافة الشعبية في العالم”.

وهناك، برأي رول، خمسة عوامل رئيسية أسهمت في تطور الموجة الكورية:

  • قرار الحكومة في بداية التسعينيات رفع الحظر الذي كان مفروضاً على سفر المواطنين الكوريين إلى الخارج، ما شجع عدداً منهم على استكشاف البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، حيث تلقى كثيرون منهم تعليمهم وبدأوا مسارهم المهني في شركات مرموقة في تلك البلدان. وعاد هؤلاء إلى بلادهم بتفسيرات جديدة للفن والموسيقى والسينما، وبطرق مبتكرة للتعبير.
  • الأزمة المالية الطاحنة التي تعرضت لها البلاد بين عامي 1997-1998، مثلها مثل غالبية بلدان شرق وجنوب آسيا آنذاك، دفعت البلاد إلى التحول صوب تنويع الاقتصاد. وقد ركز الرئيس السابق كيم داي-جونغ على تكنولوجيا المعلومات والثقافة الشعبية بوصفهما المحركين الرئيسيين لمستقبل كوريا الجنوبية.
  • إلغاء قوانين الرقابة التي كانت تمنع صناع السينما وغيرهم من الفنانين من تناول القضايا التي تعتبر مثيرة للجدل. هذه الخطوة، التي تمت في عام 1996، أتاحت العديد من الفرص لجيل الشباب للتعبير عن أفكار أكثر جرأة من خلال السينما والموسيقى.
  • زيادة اهتمام الشركات الكبرى، كسامسونغ وإل.جي، بعلامتها التجارية، حيث تم التركيز بشكل أكبر على الجودة والتصميم والتسويق على مستوى عالمي.
  • زيادة التركيز على البنى التحتية، إذ شرعت الحكومات الكورية في إنفاق مبالغ طائلة على البنية التحتية للإنترنت، والاستثمار في المشروعات الواعدة.

حدث ذلك كله في نفس الفترة تقريبا، وخلق بيئة موائمة للإبداع في مجال الموسيقى والدراما. واُنتجت أفلام تناقش موضوعات مثيرة للجدل أكثر من ذي قبل، وحققت تلك الأفلام رواجا كبيرا في المنطقة. كما أصبحت الدراما الأسرية التي تحمل في طياتها خلفية ثقافية مشتركة مع بلدان آسيوية أخرى، ذات شعبية طائلة في تلك البلدان.

وربما ساعد التاريخ في نمو الموجة الكورية بشكل ما، كما يقول رول. فغالبية البلدان الآسيوية كانت مستعمرة من قبل اليابان في السابق، ومن ثم لا يزال هناك شعور بالعداء، أو على الأقل بالرفض، للمنتجات الثقافية اليابانية من قبل تلك الدول، ولا سيما الصين. أما كوريا الجنوبية فكانت مستعمرة كباقي تلك الدول، ولذا لم تكن هناك مقاومة لمنتجها الثقافي.

دور حكومي بارز

وفقا لصحيفة كوريا هيرالد، بلغت الميزانية المخصصة لوزارة الثقافة والرياضة والسياحة لعام 2022 رقما ضخما هو 6.05 مليار دولار أمريكي. وذكرت الصحيفة أن الوزارة تعتزم زيادة دعمها لإنتاج المحتوى الثقافي والموجة الكورية والترويج لكوريا على مستوى العالم.

وتتحمل حكومة كوريا الجنوبية من 20 إلى 30 في المئة من ميزانية صندوق استثمار قيمته مليار دولار مخصص لتنمية الثقافة الشعبية وتصديرها، في حين تأتي النسبة المتبقية من البنوك الاستثمارية والشركات الخاصة.

كما أن الحكومة تلعب دورا نشطا في إدارة “الموجة” خارج كوريا، من خلال تنظيم مهرجانات ثقافية مختلفة تبرز ما تقدمه البلاد في هذا الشأن، وكذلك القيام بحملات علاقات عامة للترويج للسمات الثقافية التي تنفرد بها البلاد. وقد أقام قطاع الثقافة والإعلام بوزارة الثقافة نحو 40 مركزا ثقافيا في بلدان في أفريقيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي وأوروبا والأمريكيتين والشرق الأوسط وأفريقيا، للترويج للموجة الثقافية الكورية.

“الهاليو” تصل إلى العالم العربي

في عام 2019، تدفق 60 ألف متفرج على الرياض لمشاهدة الحفل الموسيقي الذي أقامه فريق “بي.تي.إس” في إطار موسم الرياض الترفيهي، كما أعلن تركي آل الشيخ رئيس مجلس الهيئة العامة للترفيه في المملكة أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن توقيع عقد حفل مع فرقة كورية، دون الإعلان عن اسم تلك الفرقة.

سبق ذلك إقامة حفل للفريق وغيره من كبار الفرق الغنائية الكورية في أبو ظبي بالإمارات عام 2016، في إطار مهرجان K-Con، وهو مهرجان سنوي لموسيقى البوب الكورية بدأ في الولايات المتحدة، ثم امتد إلى دول أخرى كاليابان والإمارات وفرنسا والمكسيك.

في مايو/أيار الماضي، أعلن عن تعاون بين المغني السعودي بدر الشعيبي والمغنية الكورية الجنوبية أليكسا، من خلال مشروع برعاية منصة البث الموسيقي “سبوتيفاي”.

وفضلا عن السعودية والإمارات، هناك دول عربية أخرى يقوم مستخدمو منصة “سبوتيفاي” فيها بالاستماع إلى أغاني البوب الكورية، كمصر والجزائر والمغرب. وذكرت صحيفة “اراب نيوز” نقلا عن بيانات سبوتيفاي، أن السوق السعودية هي الأكبر، في حين أن السوق المصرية هي الأسرع نموا، حيث ازدادت فيها نسبة الاستماع 33 في المئة في الفترة من 2019-2020.

يتحدث القسم العربي بموقع “كوريا نت” الذي يقدم معلومات عن كوريا في مجالات ثقافية وسياسية وغيرها، عما يصفه بـ “التأثير الإيجابي لموسيقى البوب الكورية على المجتمع العربي، مستشهدا بما يقوم به معجبو الفريق في مصر من أعمال خيرية، ورغبتهم في نشر “الرسالة الأساسية لـ بي تي إس: تقدير الذات وحبنا لشخصياتنا ومحاولة اكتشاف أفضل الأجزاء فيها وتطويرها”.